كلاب من قش: تأملات في البشر وحيوانات أخرى
135 ج.م السعر الأصلي هو: 135 ج.م.101 ج.مالسعر الحالي هو: 101 ج.م.
حالة التوفر: 3 متوفر في المخزون
شحن سريع
شحن سريع حتى باب المنزل.
تخفيضات حصرية
عروض و خصومات طوال العام.
دعم فني 24/7
كلاب من قش: تأملات في البشر وحيوانات أخرى بقلم جون غراي … جاء أوّل نقد للإنسانويّة، وهو نقدٌ لا نظير له حتى يومنا هذا، على يد آرثر شوبنهاورArthur Schopenhauer. تقاعَد هذا العازب الشّرس في مدينة فرانكفورت عام 1833 حيث أمضى العقود الأخيرة من حياته المنعزلة، وكان قد اختار المدينة لأنها بحسب اعتقاده «لا فيضانات فيها»، وفيها «أفضل المقاهي»، «وطبيب أسنان ماهر، وأطباء بشريّون أقلّ سوءًا من غيرهم»؛ وهو الذي نقل طريقتنا في رؤية أنفسنا إلى نقطة صراع ما زال يتعيّن علينا حلّها. حظي شوبنهاور قبل نحو قرنٍ من الزمن بنفوذٍ واسع النطاق، إذ تأثّر العديد من الكتّاب بشكل كبير بفلسفته، ومن بينهم توماس هاردي Thomas Hardy وجوزيف كونرادJoseph Conrad وليو تولستوي Leo Tolstoy وتوماس مان Thomas Mann؛ كما تشرّبت أفكارَه أعمالُ العديد من الموسيقيّين والرسامين، مثل شوينبرغ Schoenberg ودي شيريكوde Chirico . وإذا ما كان حضورُه لدى القرّاء محدودًا في وقتنا الحاضر، فمردُّ ذلك إلى قلّة المفكّرين الحديثين الذين يتّخذون خطًّا يعارض بقوة عصرهم وعصرنا. استخفّ شوبنهاور بأفكار التحرّر العالمي التي كانت آخذةً في الانتشار على امتداد أوروبا منتصف القرن التاسع عشر. وكان من الناحية السياسيّة ليبراليًّا رجعيًّا، جلّ ما ينتظره من الدولة هو أن تحمي حياتَه وممتلكاته، ونظر إلى الحركات الثوريّة في عصره بمزيجٍ من الرّعب والازدراء، حتى أنه وهب منظار المسرح خاصّته ليستخدمه رجال الحرس كمنظار بندقية قناصة لدى إطلاقهم النار على حشدٍ أثناء المظاهرات الشعبية لعام 1848. لكنّه ازدرى مع ذلك الفلسفة الرسمية السائدة في حينه، إذ رأى في هيغل Hegel – وهو الفيلسوف الأكثر تقديرًا في أوروبا وصاحب التأثير الهائل في المفكرين اللاحقين أمثال ماركسMarx – مجرّد مدافعٍ عن سلطة الدولة لا أكثر. اتّسم شوبنهاور في حياته الشخصية بالتحفّظ ورباطة الجأش، وامتلكَ حسًّا عميقًا بمخاطر الحياة البشرية، فكان ينام وإلى جانب سريره مسدّسات محشوّة بالطلقات، ويرفض السماح لحلّاقه بحلاقة رقبته. أحبّ الرّفقة، لكنه غالبًا ما كان يُفضِّل رفقةَ نفسه، ولم يتزوّج قط، وإن كان ذا نشاط جنسيّ كبير في ما يبدو. وجِدت مفكّرة إيروتيكية بين أوراقه حين وفاته، وقام منفِّذ وصيّته بإحراقها؛ لكنّ مقالته الشهيرة «عن المرأة» On Women ألحقت به شهرةً في كره النساء لازمته منذ ذلك الحين. كان يفضِّل التزام الـ «عادة»، وعاش في مراحل حياته الأخيرة في فرانكفورت متّبعًا روتينًا يوميًّا ثابتًا. يستيقظ نحو السابعة صباحًا، ويكتب حتى الظهيرة، ثمّ يعزف على الفلوت لنصف ساعة قبل أن يخرج لتناول طعام الغداء في المكان ذاته دائمًا. يعود بعدها إلى غرفته فيقرأ حتى الرابعة، ثمّ يخرج في نزهة على الأقدام لساعتين تنتهي في مكتبةٍ حيث يقرأ صحيفة لندن تايمز. أمّا مساءً فيحضر مسرحيّةً أو حفلًا موسيقيًّا يليه تناولُ عشاءٍ خفيف في فندق يدعى Englischer Hof. وقد احتفظ بهذا النظام لنحو ثلاثين سنة. إحدى الواقعات القليلة التي لا تُنسى في حياة شوبنهاور الهادئة جاءت نتيجة كراهيته الضجيج. إذ أثار حنقَه صوت خيّاطةٍ منزليّة تتحدّث خارج غرفته، فما كان منه إلّا أن خرج إليها ودفعها من أعلى السُّلم. أصيبت المرأة ورفعت عليه دعوى قضائيّة، وخسر القضيّة فكان لزامًا عليه أن يدفع لها مبلغًا من المال كلّ ثلاثة أشهر لبقية حياتها. وحين ماتت، كتب باللاتينية على شهادة وفاتها: «تموت العجوز، ويزول العبء». شوبنهاور الكافرُ بحقيقة النّفس، كرّس حياته من أجل نفسه. يظلُّ من غير الممكن مع ذلك تفسير إهمال شوبنهاور هذا بحياته أو بشخصيّته، بل هو راجع في الحقيقة إلى فلسفته التي تتّصف بأنها هدّامة للآمال الإنسانوية أكثر من أيّ فلسفة أخرى – من بين مجمل الفلسفات في أروربا على أيّ حال. اعتبر شوبنهاور أنّ الفلسفة محكومةٌ بالتعصّبات المسيحية، وكرّس معظم حياته لتحليل أثر هذه التعصّبات في إيمانويل كانط Immanuel Kant، المفكّر الذي حظي بأشدّ إعجاب شوبنهاور، لكنه هاجم مع ذلك فلسفته بلا هوادة معتبرًا إيّاها نسخة علمانيّة من المسيحية. والحال فإنّ فلسفة كانط كانت إحدى فروع التنوير الرئيسة، وجزءًا من حركة المفكّرين التقدّميين التي برزت في معظم أنحاء أوروبا في القرن الثامن عشر. وقد سعى مفكرو التنوير إلى إحلال الإيمان بالإنسانية محلّ الدين التقليدي، في حين اعتبر شوبنهاور التنوير نسخة علمانيّة من المغالطة الجوهريّة للمسيحية، وكان هذا جوهر نقده لكانط.